كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ سِوَى الْوَلَدِ مِنَ الْوَارِثِينَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، وَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، الْكَلَالَةُ مَنْ عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ. رَوَاهُمَا عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْهُ التَّوَقُّفُ، وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُنَّ لَنَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَرَوَى ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُوَرَّثُ الْكَلَالَةُ؟ فَقَالَ: أَوَ لَيْسَ اللهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ؟ ثُمَّ قَرَأَ: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [4: 176] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ، فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا رَأَيْتِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيِّبَ نَفْسٍ فَاسْأَلِيهِ عَنْهَا، فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: أَبُوكِ ذَكَرَ لَكِ هَذَا؟ مَا أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا أَبَدًا فَكَانَ يَقُولُ: مَا أَرَانِي اعْلَمُهَا أَبَدًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ أَمْرَ الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ فِي كَتِفٍ (أَيْ عَظْمِ كَتِفٍ)، ثُمَّ طَفِقَ يَسْتَخِيرُ رَبَّهُ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِالْكَتِفِ، فَمَحَاهَا ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ كَتَبْتُ كِتَابًا فِي الْجَدِّ، وَالْكَلَالَةِ، وَكُنْتُ أَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِ، وَإِنِّي رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَدْرُوا مَا كَانَ فِي الْكَتِفِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ غَرِيبِةٌ فِي مَعْنَاهَا. فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ لَمْ يَشْتَبِهْ فِيهِ مَنْ دُونَ عُمَرَ، وَلَا مَنْ فِي طَبَقَتِهِ، وَلِلَّهِ فِي الْبَشَرِ شُئُونٌ، وَقَلَّمَا تَقْرَأُ تَرْجَمَةَ رَجُلٍ عَظِيمٍ إِلَّا وَتَجِدُ فِيهَا أَنَّهُ انْفَرَدَ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ فِي بَابِهِ.
إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ آيَتَيْنِ فِي الْكَلَالَةِ: الْآيَةُ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَالْآيَةُ الَّتِي فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَرِثُهُ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ مِنَ الْكَلَالَةِ فَقَطْ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ إِلَى بَيَانِ مَا يَأْخُذُهُ إِخْوَةُ الْعَصَبِ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ إِرْثُ كَلَالَةٍ فِيهِ إِخْوَةُ عَصَبٍ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى الَّتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ الَّتِي جَعَلَتْ لِلْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفَ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَلِلْأُخْتَيْنِ فَأَكْثَرَ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْأَخِ فَأَكْثَرَ كُلَّ التَّرِكَةِ {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [4: 176] فَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى هُنَا: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} يَعْنِي بِهِ الْأَخَ، أَوِ الْأُخْتَ مِنَ الْأُمِّ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْأَخَوَيْنِ مِنَ الْعَصَبِ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ فَرْضَ الْأُمِّ، فَإِنَّهُ إِمَّا السُّدُسُ، وَإِمَّا الثُّلُثُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُفَسِّرُونَ علىْ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ بِزِيَادَةِ مِنَ الْأُمِّ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِزِيَادَة مِنْ أُمٍّ وَقَالُوا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ أَيْ غَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ تُخَصِّصُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ أَحَادِيثِ الْآحَادِ. وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ قِرَاءَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهُمَا فَظَنُّوا أَنَّ كَلِمَةَ: مِنَ الْأُمِّ قِرَاءَةٌ، وَأَنَّهُمَا يَعُدَّانِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَرَى أَنَّ كُلَّ مَا رُوِيَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّحَابِيُّ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ بِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تَلَقَّى ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي قَصَدَ التَّفْسِيرَ فَظَنَّ الصَّحَابِيُّ أَنَّهُ يُرِيدُ الْقُرْآنَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِرَاءَةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَالِيَةُ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَلَا دَخْلَ هَاهُنَا لِلَفْظِ الرَّاوِي فِي التَّرْجِيحِ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ الْأَحَادِيثَ بِالْمَعْنَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَخَ مِنَ الْأُمِّ يَأْخُذُ فِي الْكَلَالَةِ السُّدُسَ، وَكَذَلِكَ الْأُخْتُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَلَّ مَحَلَّ أُمِّهِ فَأَخَذَ نَصِيبَهَا. وَإِذَا كَانُوا مُتَعَدِّدِينَ أَخَذُوا الثُّلُثَ وَكَانُوا فِيهِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِهِمْ، وَأُنْثَاهُمْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ، وَفِيهِ قِرَاءَةُ يُوصَى بِفَتْحِ الصَّادِ، وَكَسْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ هَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» أَيْ مِنْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ كَانُوا يُعْطُونَ جَمِيعَ التَّرِكَةِ لِلرِّجَالِ مِنْ عَصَبَتِهِمْ دُونَ النِّسَاءِ، وَالصِّغَارِ، فَفَرَضَ سُبْحَانَهُ لِلنِّسَاءِ مَا فَرَضَهُ فَكُنَّ شَرِيكَاتٍ لِلرِّجَالِ، وَجَعَلَ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ فِي الْإِرْثِ سَوَاءً، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ بِالنَّصِّ، وَلَا بِالْفَحْوَى فَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي تَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ مِنَ الْعَصَبَاتِ إِذْ لَا ضَرَرَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَسُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ سُنَّةً فَيَكُونُ اتِّبَاعُهَا مُقَدَّمًا عَلَى عُرْفِهِمْ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ.
ثُمَّ قَالَ: {غَيْرَ مُضَارٍّ} أَيْ ذَلِكَ الْحَقُّ فِي الْوَرَثَةِ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ يُوصِي بِهَا الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرَ مُضَارٍّ بِهَا وَرَثَتَهُ، وَحَدَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَصِيَّةَ الْجَائِزَةَ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ، وَقَالَ: وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ كَمَا فِي حَدِيثِ سَعْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَهُوَ ضِرَارٌ لَا يَصِحُّ، وَلَا يُنَفَّذُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ الضِّرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ أَيْ إِذَا قَصَدَهُ الْمُوصِي، وَأَيْضًا مِنْ بَعْدِ دَيْنٍ صَحِيحٍ لَمْ يَعْقِدْهُ الْمَيِّتُ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُقِرَّ بِهِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، لِأَجْلِ مُضَارَّةِ الْوَرَثَةِ. وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مِمَّنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ شَيْئًا فَهَذَا مَعْصِيَةٌ أَيْضًا، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَرِحُهَا الْمُبْغِضُونَ لِلْوَارِثِينَ لَهُمْ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانُوا كَلَالَةً؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْقَيْدُ فِي وَصِيَّةِ إِرْثِ الْكَلَالَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى مُضَارَّةِ الْوَالِدَيْنِ، أَوِ الْأَوْلَادِ وَكَذَا الْأَزْوَاجُ نَادِرٌ جِدًّا، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
{وَصِيَّةً مِنَ اللهِ} أَيْ يُوصِيكُمْ بِذَلِكَ، وَصِيَّةً مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ فَهِيَ جَدِيرَةٌ بِالْإِذْعَانِ لَهَا، وَالْعَمَلِ بِمُوجِبِهَا {وَاللهُ عَلِيمٌ} بِمَصَالِحِكُمْ، وَمَنَافِعِكُمْ وَبِنِيَّاتِ الْمُوصِينَ مِنْكُمْ {حَلِيمٌ} لَا يَسْمَحُ لَكُمْ بِأَنْ تُعَجِّلُوا بِعُقُوبَةِ مَنْ تَسْتَاءُونَ مِنْهُ، وَمُضَارَّتِهِ بِالْوَصِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَحْ لَكُمْ بِحِرْمَانِ النِّسَاءِ، وَالْأَطْفَالِ مِنَ الْإِرْثِ، وَهُوَ لَا يُعَجِّلُ بِالْعِقَابِ فِي أَحْكَامِهِ وَلَا فِي الْجَزَاءِ عَلَى مُخَالَفَتِهَا عَسَى أَنْ يَتُوبَ الْمُخَالِفُ.
بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ رَأَيْتُ فِي كُرَّاسَةٍ لِبَعْضِ تَلَامِيذِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ كَلَامًا نَقَلَهُ مِنْ دَرْسِهِ فِي تَفْسِيرِ: وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ هَذَا مِثَالُهُ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَعْنَى، وَاخْتِلَافٍ فِي الْأُسْلُوبِ: هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى أَخْذِ وَصِيَّةِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ بِقُوَّةٍ، وَتَنْبِيهٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمَصْلَحَةِ لَنَا، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ- تَعَالَى شَأْنُهُ- أَعْلَمُ مِنَّا بِمَصَالِحِنَا، وَمَنَافِعِنَا فَمَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نُذْعِنَ لِوَصَايَاهُ، وَفَرَائِضِهِ، وَنَعْمَلَ بِمَا يُنْزِلُهُ عَلَيْنَا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَكَمَا يُشِيرُ اسْمُ الْعَلِيمِ هُنَا إِلَى وَضْعِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ بِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَمَنْفَعَتِهِمْ يُشِيرُ أَيْضًا إِلَى وُجُوبِ مُرَاقَبَةِ الْوَارِثِينَ، وَالْقُوَّامِ عَلَى التَّرِكَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عِلْمِهِمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُ مَنْ يَلْتَزِمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَالُ مَنْ يَتَعَدَّى تِلْكَ الْحُدُودَ بِأَكْلِ شَيْءٍ مِنَ الْوَصَايَا، أَوِ الدَّيْنِ، أَوْ حَقِّ صِغَارِ الْوَارِثِينَ، أَوِ النِّسَاءِ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ لَهُمْ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ الْجَاهِلِيَّةُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا فَلِلتَّذْكِيرِ بِعِلْمِهِ تَعَالَى هُنَا فَائِدَتَانِ: فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِحِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَفَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ التَّنْفِيذِ.
وَقَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ الظَّاهِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقْرِنَ وَصْفَ الْعِلْمِ بِوَصْفِ الْحِكْمَةِ كَالْآيَةِ الْأُخْرَى، فَيُقَالُ: وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ فِي إِيثَارِ الْوَصْفِ بِالْحِلْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْحِكْمَةِ، وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ، وَحَثٍّ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ؛ لَا مَقَامَ حَثٍّ عَلَى التَّوْبَةِ فَيُؤْتَى فِيهِ بِالْحِلْمِ الَّذِي يُنَاسِبُ الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ التَّذْكِيرَ بِعِلْمِ اللهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِنْذَارِ مَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَهُ تَعَالَى فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَصِيَّةِ، وَالدَّيْنِ، وَالْفَرَائِضِ، وَوَعِيدِهِ، وَكَانَ تَحَقُّقُ الْإِنْذَارِ، وَالْوَعِيدِ بِعِقَابِ مُعْتَدِي الْحُدُودِ وَهَاضِمِ الْحُقُوقِ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنِ الذَّنْبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةَ غُرُورِ الْغَافِلِ، ذَكَّرَنَا تَعَالَى هُنَا بِحِلْمِهِ لِنَعْلَمَ أَنَّ تَأَخُّرَ نُزُولِ الْعِقَابِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ الْوَعِيدَ وَالْإِنْذَارَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْجَرَاءَةِ، وَالِاغْتِرَارِ، فَإِنَّ الْحَلِيمَ هُوَ الَّذِي لَا تَسْتَفِزُّهُ الْمَعْصِيَةُ إِلَى التَّعْجِيلِ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَيْسَ فِي الْحِلْمِ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْعَفْوِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا يَغُرَّنَّ الطَّامِعَ فِي الِاعْتِدَاءِ، وَأَكْلِ الْحُقُوقِ تَمَتُّعُ بَعْضِ الْمُعْتَدِينَ بِمَا أَكَلُوا بِالْبَاطِلِ، فَيَنْسَى عِلْمَ اللهِ تَعَالَى بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ، وَوَعِيدَهُ لِأَمْثَالِهِمْ، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ فَيَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِ مَا تَجَرَّءُوا عَلَيْهِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ، وَلَا يَغُرَّنَّ الْمُعْتَدِيَ نَفْسَهُ تَأَخُّرُ نُزُولِ الْوَعِيدِ بِهِ، فَيَتَمَادَى فِي الْمَعْصِيَةِ بَدَلًا مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، لَا يَغُرَّنَّ هَذَا وَلَا ذَاكَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ، فَإِنَّهُ إِمْهَالٌ يَقْتَضِيهِ الْحِلْمُ، لَا إِهْمَالٌ مِنَ الْعَجْزِ أَوْ عَدَمِ الْعِلْمِ، وَفَائِدَةُ الْمُذْنِبِ مِنْ حِلْمِ الْحَلِيمِ الْقَادِرِ أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ وَقْتًا لِلتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ بِالتَّأَمُّلِ فِي بَشَاعَةِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَإِذَا أَصَرَّ الْمُذْنِبُ عَلَى ذَنْبِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْحِلْمِ فَائِدَةٌ فِي إِصْلَاحِ شَأْنِهِ، يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ عِقَابُ الْحَلِيمِ لَهُ أَشَدَّ مِنْ عِقَابِ السَّفِيهِ عَلَى الْبَادِرَةِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَمِنَ الْأَمْثَالِ فِي ذَلِكَ: اتَّقُوا غَيْظَ الْحَلِيمِ ذَلِكَ بِأَنَّ غَيْظَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ آخِرِ دَرَجَاتِ الْحِلْمِ إِذَا لَمْ تُبْقِ الذُّنُوبُ مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ انْتِقَامُهُ عَظِيمًا. نَعَمْ إِنَّ حِلْمَ اللهِ تَعَالَى لَا يَزُولُ، وَلَكِنَّهُ يُعَامِلُ بِهِ كُلَّ أَحَدٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [13: 8] فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْتَرَّ بِحِلْمِهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِكَرَمِهِ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [82: 6- 9].
{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} تَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذُكِرَتْ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الْأَحْكَامَ حُدُودًا لِأَعْمَالِ الْمُكَلَّفِينَ يَنْتَهُونَ مِنْهَا إِلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَجَاوَزُوهَا، وَيَتَعَدَّوْهَا. وَهَكَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِهِ فِي الْمَأْمُورَاتِ، وَالْمَنْهِيَّاتِ، وَكَذَا الْمُبَاحَاتِ، فَإِنَّ لَهَا حُدُودًا إِذَا تَجَاوَزَهَا الْمُكَلَّفُ وَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ فَقَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [7: 31] أَقُولُ: فَمَدَارُ الطَّاعَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي دَائِرَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ، وَمَدَارُ الْعِصْيَانِ عَلَى اعْتِدَائِهَا؛ وَلِذَلِكَ وَصَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْمُبَيِّنَةَ كَوْنَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ حُدُودًا بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْعِصْيَانِ مُطْلَقًا، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ إلخ. طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى هِيَ اتِّبَاعُ مَا شَرَعَهُ مِنَ الدِّينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَطَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ عَيْنُ طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [4: 80] وَسَيَأْتِي ذِكْرُ الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهَا، فَمَا هِيَ النُّكْتَةُ إِذًا فِي ذِكْرِ طَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ ذِكْرِ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى؟ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ طَاعَةَ اللهِ تَعَالَى وَطَاعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تَتَّحِدَانِ فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى فِيمَا يُسْنِدُهُ الرَّسُولُ إِلَى رَبِّهِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ يَأْمُرُ الرَّسُولُ بِأَشْيَاءَ، وَيَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ بِاجْتِهَادِهِ، فَإِذَا جَزَمَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِرْشَادِ، أَوْ الِاسْتِحْبَابِ، وَالنَّهْيَ لِلْكَرَاهَةِ، أَوْ الِاسْتِهْجَانِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوِ الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ، وَالْقَضَائِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ إِمَامُ الْأُمَّةِ، وَحَاكِمُهَا. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُقِرُّ رُسُلَهُ عَلَى خَطَإٍ فِي اجْتِهَادِهِمْ، بَلْ يُبَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ الْعَفْوِ عَنْ عَدَمِ إِعْطَاءِ الِاجْتِهَادِ حَقَّهُ الْمُوصِلَ إِلَى مَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَقَوْلِهِ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا أَذِنَ لِبَعْضِ مَنِ اسْتَأْذَنَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [9: 43] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، أَوْ مَعَ الْعِتَابِ كَمَا عَاتَبَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ الْمُوَافِقِ لِاجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَبُولِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [67، 68] مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ. وَكَمَا عَاتَبَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى الْمُسْتَرْشِدِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [80: 1] إلخ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا يَقُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالْعَادَاتِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ دِينًا، وَلَا قَضَاءً، وَلَا سِيَاسَةً؛ وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» كَمَا فِي الصَّحِيحِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: طَاعَةُ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُنَا بِمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ اللهُ مِنْ مَصَالِحِنَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ طَاعَةَ الرَّسُولِ مَعَ طَاعَةِ اللهِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبْلَ الْيَهُودِيَّةِ، وَبَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِعَقْلِهِ، وَعِلْمِهِ عَنِ الْوَحْيِ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا عَلِيمًا حَكِيمًا، وَأَعْمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلِي مِنَ الْخَيْرِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرُّسُلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِطَبِيعَتِهِ النَّوْعِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الدِّينِ، وَأَنَّهَا هِيَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحَوَاسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ. فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِهِ كَافِيًا لِهِدَايَةِ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ، وَمُرَقِّيًا لَهُ بِدُونِ مَعُونَةِ الدِّينِ.